فصل: فَصْلٌ: سَبَبُ الِاسْتِيلَادِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: سَبَبُ الِاسْتِيلَادِ:

وَأَمَّا سَبَبُ الِاسْتِيلَادِ وَهُوَ صَيْرُورَةُ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: سَبَبُهُ هُوَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عُلُوقُ الْوَلَدِ حُرًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الِاسْتِيلَادِ فِي الْحَالِ هُوَ ثُبُوتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ، وَثُبُوتُ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَارِيَتِهِ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ لَمَّا وَلَدَتْ إبْرَاهِيمَ ابْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّسْبِيبِ أَيْ وَلَدُهَا سَبَبُ عِتْقِهَا.
غَيْرَ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي جِهَةِ التَّسْبِيبِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: هِيَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيَ عُلُوقُ الْوَلَدِ حُرًّا مُطْلَقًا.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ إنَّ الْوَلَدَ حُرٌّ بِلَا شَكٍّ وَإِنَّهُ جُزْءُ الْأُمِّ، وَحُرِّيَّةُ الْجُزْءِ تَقْتَضِي حُرِّيَّةَ الْكُلِّ إذْ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْكُلُّ رَقِيقًا وَالْجُزْءُ حُرًّا، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُعْتَقَ الْأُمُّ لِلْحَالِ إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا لَا تُعْتَقُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ انْفَصَلَ مِنْهَا، وَحُرِّيَّتُهُ عَلَى اعْتِبَارِ الِانْفِصَالِ لَا تُوجِبُ حُرِّيَّةَ الْأُمِّ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ الْجَنِينَ فَقُلْنَا بِثُبُوتِ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ فِي الْحَالِ وَتَأَخُّرِ الْحَقِيقَةِ إلَى بَعْدِ الْمَوْتِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ، وَلَنَا أَنَّ الْوَطْءَ الْمُعَلَّقَ أَوْجَبَ الْجُزْئِيَّةَ بَيْنَ الْمَوْلَى وَالْجَارِيَةِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ لِاخْتِلَاطِ الْمَاءَيْنِ وَصَيْرُورَتِهِمَا شَيْئًا وَاحِدًا وَانْخِلَاقِ الْوَلَدِ مِنْهُ، فَكَانَ الْوَلَدُ جُزْءًا لَهُمَا، وَبَعْدَ الِانْفِصَالِ عَنْهَا إنْ لَمْ يَبْقَ جُزْءًا لَهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ فَقَدْ بَقِيَ حُكْمًا لِثُبُوتِ النَّسَبِ، وَلِهَذَا تُنْسَبُ كُلُّ الْأُمِّ إلَيْهِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ يُقَالُ: أُمُّ وَلَدِهِ.
فَلَوْ بَقِيَتْ حَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ لَثَبَتَتْ حَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ لِلْحَالِ فَإِذَا بَقِيَتْ حُكْمًا ثَبَتَ الْحَقُّ عَلَى مَا عَلَيْهِ وَضْعُ مَأْخَذِ الْحُجَجِ فِي تَرْتِيبِ الْأَحْكَامِ عَلَى قَدْرِ قُوَّتِهَا وَضَعْفِهَا، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: أَبَعْدَمَا اخْتَلَطَتْ لُحُومُكُمْ بِلُحُومِهِنَّ وَدِمَاؤُكُمْ بِدِمَائِهِنَّ تُرِيدُونَ بَيْعَهُنَّ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا السَّبَبِ فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا الثَّلَاثَةُ: السَّبَبُ هُوَ ثُبُوتُ النَّسَبِ شَرْعًا، وَقَالَ زُفَرُ: هُوَ ثُبُوتُ النَّسَبِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ ثَبَتَ شَرْعًا أَوْ حَقِيقَةً.
وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلَ إذَا تَزَوَّجَ جَارِيَةً إنْسَانٌ فَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ مَلَكهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِيلَادِ هُوَ ثُبُوتُ النَّسَبِ وَقَدْ ثَبَتَ فَتَحَقَّقَ السَّبَبُ، إلَّا أَنَّهُ تَوَقَّفَ الْحُكْمُ عَلَى وُجُودِ الْمِلْكِ فَتَعَذَّرَ إثْبَاتُ حُكْمِهِ وَهُوَ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ، كَمَا يَتَعَذَّرُ إثْبَاتُ الْحَقِيقَةِ فِي غَيْرِهِ فَتَأَخَّرَ الْحُكْمُ إلَى وَقْتِ الْمِلْكِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ لِأَنَّ السَّبَبَ عِنْدَهُ عُلُوقُ الْوَلَدِ حُرًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ رَقِيقٌ فِي حَقِّ مَوْلَاهُ، وَإِذَا مَلَكَ وَلَدَهُ الَّذِي اسْتَوْلَدَهُ عَتَقَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا عِنْدَنَا فَلِأَنَّهُ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَيَعْتِقُ.
وَأَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّهُ مَلَكَ وَلَدًا ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْهُ شَرْعًا، وَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْ غَيْرِ مَالِكِ الْجَارِيَةِ بِوَطْءٍ بِشُبْهَةٍ، ثُمَّ مَلَكَهَا فَقَدْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ حِينَ مَلَكَهَا عِنْدَنَا لِوُجُودِ السَّبَبِ، وَعِنْدَهُ لَا؛ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ، وَلَوْ مَلَكَ الْوَلَدَ عَتَقَ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ زَنَى بِجَارِيَةٍ فَاسْتَوْلَدَهَا بِأَنْ قَالَ: زَنَيْتُ بِهَا أَوْ فَجَرْت بِهَا أَوْ قَالَ: هُوَ ابْنِي مِنْ زِنًا أَوْ فُجُورٍ.
وَصَدَّقَتْهُ وَصَدَّقَهُ مَوْلَاهَا فَوَلَدَتْ ثُمَّ مَلَكَهَا لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ تَصِيرَ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ السَّبَبَ عِنْدَهُ ثُبُوتُ النَّسَبِ مُطْلَقًا، وَقَدْ ثَبَتَ النَّسَبُ حَقِيقَةً بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَمَلَّك الْوَلَدَ عَتَقَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَالسَّبَبُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ هُوَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ شَرْعًا وَلَمْ يَثْبُتْ.
وَأَمَّا شَرْطُهُ فَمَا هُوَ شَرْطُ ثُبُوتِ النَّسَبِ شَرْعًا، وَهُوَ الْفِرَاشُ وَلَا فِرَاشَ إلَّا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، أَوْ شُبْهَةٍ، أَوْ تَأْوِيلِ الْمِلْكِ أَوْ مِلْكِ النِّكَاحِ، أَوْ شُبْهَتِهِ.
وَلَا تَصِيرُ الْأَمَةُ فِرَاشًا فِي مِلْكِ الْيَمِينِ بِنَفْسِ الْوَطْءِ بَلْ بِالْوَطْءِ مَعَ قَرِينَةِ الدَّعْوَى عِنْدَنَا، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الدَّعْوَى، فَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِيلَادُ بِدُونِ الدَّعْوَةِ، وَيَسْتَوِي فِي الِاسْتِيلَادِ مِلْكُ الْقِنَّةِ وَالْمُدَبَّرَةِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ إلَّا أَنَّ الْمُدَبَّرَةَ إذَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ بَطَلَ التَّدْبِيرُ؛ لِأَنَّ أُمِّيَّةَ الْوَلَدِ أَنْفَعُ لَهَا.
أَلَا تَرَى أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا تَسْعَى لِغَرِيمٍ وَلَا لِوَارِثٍ، وَالْمُدَبَّرَةُ تَسْعَى وَيَسْتَوِي فِي ثَبَاتِ النَّسَبِ مِلْكُ كُلِّ الْجَارِيَةِ وَبَعْضِهَا، وَكَذَا فِي الِاسْتِيلَادِ حَتَّى لَوْ أَنَّ جَارِيَةً بَيْنَ اثْنَيْنِ عُلِّقَتْ فِي مِلْكِهِمَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا، يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ بِالضَّمَانِ، وَهُوَ نِصْفُ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ، وَيَسْتَوِي فِي هَذَا الضَّمَانِ الْيَسَارُ وَالْإِعْسَارُ وَيَغْرَمُ نِصْفَ الْعُقْرِ لِشَرِيكِهِ، وَلَا يَضْمَنُ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ شَيْئًا.
أَمَّا ثُبُوتُ النَّسَبِ فَلِحُصُولِ الْوَطْءِ فِي مَحَلٍّ لَهُ فِيهِ مِلْكٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ الْمِلْكِ أَوْجَبَ ثُبُوتَ النَّسَبِ بِقَدْرِهِ، وَالنَّسَبُ لَا يَتَجَزَّأُ وَإِذَا ثَبَتَ فِي بَعْضِهِ ثَبَتَ فِي كُلِّهِ ضَرُورَةَ عَدَمِ التَّجَزُّؤِ، وَلِأَنَّ النَّسَبَ ثَبَتَ بِشُبْهَةِ الْمِلْكِ فَلَأَنْ يَثْبُتَ بِحَقِيقَةِ الْمِلْكِ أَوْلَى.
وَأَمَّا صَيْرُورَةُ الْجَارِيَةِ كُلِّهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، فَالنِّصْفُ قَضِيَّةٌ لِلتَّسَبُّبِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْجَارِيَةِ مَمْلُوكٌ لَهُ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ إمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَتَجَزَّأُ فِيمَا يُمْكِنُ نَقْلُ الْمِلْكِ فِيهِ، فَإِذَا ثَبَتَ فِي الْبَعْضِ يَثْبُتُ فِي الْكُلِّ لِضَرُورَةِ عَدَمِ التَّجَزُّؤِ وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ التَّكَامُلِ، وَهُوَ النَّسَبُ عَلَى كَوْنِهِ مُتَجَزِّئًا فِي نَفَسِهِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِيلَادِ هُوَ ثُبُوتُ النَّسَبِ، وَالنَّسَبُ لَا يَتَجَزَّأُ وَالْحُكْمُ عَلَى وَفْقِ الْعِلَّةِ فَثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ، وَفِي نَصِيبِهِ قَضِيَّةٌ لِلسَّبَبِ ثُمَّ يَتَكَامَلُ فِي الْبَاقِي بِسَبَبِ النَّسَبِ، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ سَبَبٍ آخَرَ أَوْجَبَ التَّكَامُلَ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْخِلَافِيَّاتِ، ثُمَّ لَا سَبِيلَ إلَى التَّكَامُلِ بِدُونِ مِلْكِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَيَصِيرُ مُتَمَلِّكًا نَصِيبَ شَرِيكِهِ ضَرُورَةَ صِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ فِي ذَلِكَ النَّصِيبِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى تَمَلُّكِ مَالِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ، فَيَتَمَلَّكُهُ بِالْبَدَلِ وَهُوَ نِصْفُ قِيمَتِهَا، وَإِنَّمَا اسْتَوَى فِي هَذَا الضَّمَانِ حَالَةُ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مِلْكٍ كَضَمَانِ الْمَبِيعِ.
وَأَمَّا وُجُوبُ نِصْفِ الْعُقْرِ فَلِوُجُودِ الْإِقْرَارِ مِنْهُ بِوَطْءِ مِلْكِ الْغَيْرِ، وَأَنَّهُ حَرَامٌ إلَّا أَنَّ الْحَدَّ لَمْ يَجِبْ لِمَكَانِ شُبْهَةٍ لِحُصُولِ الْوَطْءِ فِي مِلْكِهِ وَمِلْكِ شَرِيكِهِ فلابد مِنْ وُجُوبِ الْعُقْرِ وَلَا يَدْخُلُ الْعُقْرُ فِي ضَمَانِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ نِصْفِ الْقِيمَةِ ضَمَانُ الْجُزْءِ، وَضَمَانُ الْبِضْعِ ضَمَانُ الْجُزْءِ، وَلِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ لَهَا حُكْمُ الْأَجْزَاءِ، وَضَمَانُ الْجُزْءِ لَا يَدْخُلُ فِي مِثْلِهِ.
وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ نِصْفِ قِيمَةِ الْوَلَدِ فَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ بِالْعُلُوقِ السَّابِقِ فَصَارَ الْوَلَدُ جَارِيًا عَلَى مِلْكِهِ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْوَلَدَ فِي حَالِ الْعُلُوقِ لَا قِيمَةَ لَهُ فَلَا يُقَابَلُ بِالضَّمَانِ، وَلِأَنَّهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْأَوْصَافِ فَلَا يُفْرَدُ بِالضَّمَانِ، وَيَسْتَوِي فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ وَصَيْرُورَةِ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ مِلْكُ الذَّاتِ وَمِلْكُ الْيَدِ كَالْمُكَاتَبِ إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً مِنْ إكْسَابِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَيَسْتَوِي فِي دَعْوَةِ النَّسَبِ حَالَةُ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ، وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا وَأَعْتَقَهُ الْآخَرُ وَخَرَجَ الْقَوْلُ مِنْهُمَا مَعًا، فَعِتْقُهُ بَاطِلٌ وَدَعْوَةُ صَاحِبِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ اسْتَنَدَتْ إلَى حَالَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ، وَهِيَ الْعُلُوقُ وَالْعِتْقُ وَقَعَ فِي الْحَالِ فَصَارَتْ الدَّعْوَةُ أَسْبَقَ مِنْ الْإِعْتَاقِ فَكَانَتْ أَوْلَى، وَإِنْ ادَّعَيَاهُ جَمِيعًا فَهُوَ ابْنُهُمَا، وَالْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُمَا تَخْدِمُ لِهَذَا يَوْمًا، وَلِذَاكَ يَوْمًا، وَلَا يَضْمَنُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مِنْ قِيمَةِ الْأُمِّ لِصَاحِبِهِ شَيْئًا، وَيَضْمَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الْعُقْرِ فَيَكُونُ قِصَاصًا أَمَّا ثُبُوتُ النَّسَبِ مِنْهُمَا فَمَذْهَبُنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَثْبُتُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيَتَعَيَّنُ بِقَوْلِ الْقَافَةِ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الدَّعْوَى.
وَأَمَّا صَيْرُورَةُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ فَلِثُبُوتِ نَسَبِ وَلَدِهَا مِنْهُ، فَصَارَ كَأَنَّهُ انْفَرَدَ بِالدَّعْوَةِ، وَإِنَّمَا لَا يَضْمَنُ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ شَيْئًا مِنْ قِيمَةِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى شَرِيكِهِ، وَإِنَّمَا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ نِصْفَ الْعُقْرِ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِالْوَطْءِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ فَيَصِيرُ أَحَدُهُمَا قِصَاصًا لِلْآخَرِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي الِاسْتِيفَاءِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ أَوْ خَمْسَةٍ فَادَّعُوهُ جَمِيعًا مَعًا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُمْ، وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدِهِمْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْنِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَنَذْكُرُ الْحِجَجَ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَتْ الْأَنْصِبَاءُ مُخْتَلِفَةً بِأَنْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ السُّدُسُ، وَالْآخَرِ الرُّبُعُ، وَالْآخَرِ الثُّلُثُ، وَلِآخَرَ مَا بَقِيَ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُمْ وَيَصِيرُ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، لَا يَتَعَدَّى إلَى نَصِيبِ صَاحِبِهِ حَتَّى تَكُونَ الْخِدْمَةُ وَالْكَسْبُ وَالْغَلَّةُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَنْصِبَائِهِمْ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ مِنْهُ فِي نَصِيبِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ فِيهِ اسْتِيلَادُ غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَتْ الْأَمَةُ بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَيَاهُ جَمِيعًا مَعًا، أَوْ كَانَتْ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ فَادَّعَيَاهُ، أَوْ بَيْنَ حُرٍّ وَمُكَاتَبٍ، أَوْ بَيْنَ مُكَاتَبٍ وَعَبْدٍ، أَوْ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ، أَوْ بَيْنَ كِتَابِيٍّ وَمَجُوسِيٍّ، أَوْ بَيْنَ عَبْدٍ مُسْلِمٍ أَوْ مُكَاتَبٍ مُسْلِمٍ وَبَيْنَ حُرٍّ كَافِرٍ، أَوْ بَيْنَ ذِمِّيٍّ وَمُرْتَدٍّ، فَحُكْمُهُ يُذْكَرُ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى، هَذَا إذَا كَانَ الْعُلُوقُ فِي مِلْكِ الْمُدَّعِيَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَنْ اشْتَرَيَاهَا وَهِيَ حَامِلٌ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَهُوَ مِنْ مَسَائِلِ الدَّعْوَى نَذْكُرهُ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَا إذَا وَلَدَتْ الْجَارِيَةُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَلَدَيْنِ، فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَدًا وَلَدَتْهُمَا فِي بَطْنٍ أَوْ بَطْنَيْنِ وَالدَّعْوَتَانِ خَرَجَتَا مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ، وَكَذَا إذَا وَلَدَتْ جَارِيَةٌ لِإِنْسَانٍ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ فَادَّعَى أَحَدُهُمْ وَهُمْ وُلِدُوا فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي بُطُونٍ مُخْتَلِفَةٍ وَادَّعَى الْمَوْلَى أَحَدَهُمْ بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَحُكْمُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى وَكَذَا دَعْوَةُ الْأَبِ نَسَبَ وَلَدِ جَارِيَةِ ابْنِهِ مَعَ فُرُوعِهَا، وَدَعْوَةُ اللَّقِيطِ مَعَ فُصُولِهَا تُذْكَرُ ثَمَّةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
أَمَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لِصَاحِبِهِ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ صَاحِبُهُ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَبْطُلُ حَقُّ الشَّاهِدِ فِي رَقَبَتِهَا مُوسِرًا كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَوْ مُعْسِرًا، وَتَخْدِمُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ يَوْمًا، وَيَرْفَعُ عَنْهَا يَوْمًا، فَإِنْ مَاتَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ سَعَتْ لِوَرَثَتِهِ، وَكَانَتْ فِي حَالِ السِّعَايَةِ كَالْمُكَاتَبَةِ، فَإِنْ أَدَّتْ عَتَقَتْ وَكَانَ نِصْفُ وَلَائِهَا لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَالنِّصْفُ لِبَيْتِ الْمَالِ.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَسْعَى السَّاعَةَ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَإِذَا أَدَّتْ فَهِيَ حُرَّةٌ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهَا.
وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ الْمُقِرَّ قَدْ أَفْسَدَ عَلَى شَرِيكِهِ مِلْكَهُ بِإِقْرَارِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُصَدِّقْهُ الشَّرِيكُ انْقَلَبَ إقْرَارُهُ عَلَى نَفَسِهِ، فَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّ الْبَائِعَ كَانَ قَدْ أَعْتَقَهُ وَأَنْكَرَ الْبَائِعُ أَنَّهُ يَنْقَلِبُ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ وَيُجْعَلُ مُعْتَقًا كَذَا هَاهُنَا، وَإِذَا انْقَلَبَ إقْرَارُهُ عَلَى نَفَسِهِ صَارَ مُقِرًّا بِالِاسْتِيلَادِ فِي نَصِيبِهِ، وَمَتَى ثَبَتَ فِي نَصِيبِهِ ثَبَتَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَجَزَّأْ، فَقَدْ أَفْسَدَ نَصِيبَ صَاحِبِهِ لَكِنْ لَا سَبِيلَ إلَى تَضْمِينِهِ؛ لِأَنَّ شَرِيكَهُ قَدْ كَذَّبَهُ فِي إقْرَارِهِ، فَكَانَ لِشَرِيكِهِ السِّعَايَةُ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ الْمُقِرُّ نَصِيبَهُ وَهُوَ مُعْسِرٌ، وَإِذَا سَعَتْ فِي نَصِيبِهِ وَعَتَقَ نَصِيبُهُ يَعْتِقُ الْكُلُّ لِعَدَمِ تَجَزُّؤِ الْعِتْقِ عِنْدَهُ، وَلَهُمَا أَنَّ الْمُقِرَّ بِهَذَا الْإِقْرَارِ يَدَّعِي الضَّمَانَ عَلَى الْمُنْكِرِ بِسَبَبِ الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَتَجَزَّأُ فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ وَالْمِلْكَ وَيَجِبُ الضَّمَانُ فِيهِ عَلَى الشَّرِيكِ فِي حَالَةِ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَدَعْوَى الضَّمَانِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَمَةِ عَنْ السِّعَايَةِ فَبَطَلَ حَقُّهُ فِي رَقَبَتِهَا وَبَقِيَ حَقُّ الْمُنْكِرِ فِي نَصِيبِهِ كَمَا كَانَ، وَلِأَنَّ الْمُقِرَّ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ صَادِقًا فِي الْإِقْرَارِ، وَإِمَّا إنْ كَانَ فِيهِ كَاذِبًا.
فَإِنْ كَانَ صَادِقًا كَانَتْ الْجَارِيَةُ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ لِصَاحِبِهِ، فَيُسَلِّمُ لَهُ كَمَالَ الِاسْتِخْدَامِ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا كَانَتْ الْجَارِيَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا كَانَتْ قَبْلَ الْإِقْرَارِ، فَنِصْفُ الْخِدْمَةِ ثَابِتَةٌ لِلْمُنْكِرِ بِيَقِينٍ، وَاعْتِبَارُ هَذَا الْمَعْنَى يُوجِبُ أَنْ لَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا أَيْضًا.
فَأَمَّا الْمُقِرُّ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ عَنْ الْخِدْمَةِ لِزَعْمِهِ أَنَّ كُلَّ الْخِدْمَةِ أَنَّ لِشَرِيكِهِ، إلَّا شَرِيكَهُ لَمَّا رَدَّ عَلَيْهِ بَطَلَتْ خِدْمَةُ الْيَوْمِ، وَبَيْعُ هَذِهِ الْجَارِيَةِ مُتَعَذِّرٌ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ أَقَرَّ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ، وَحِينَمَا أَقَرَّ كَانَ لَهُ مِلْكٌ فِيهَا فِي الظَّاهِرِ فَيَنْفُذُ إقْرَارُهُ فِي حَقِّهِ، وَإِذَا مَاتَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَإِنَّهَا تَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الشَّاهِدِ أَنَّهَا عَتَقَتْ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ لِزَعْمِهِ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدِ صَاحِبِهِ، وَالْأَمَةُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ إذَا أَقَرَّ أَحَدُهُمَا عَلَى شَرِيكِهِ بِالْعِتْقِ كَانَ لَهُ عَلَيْهَا السِّعَايَةُ وَإِنْ كَذَّبَهُ صَاحِبُهُ فِي الْإِقْرَارِ، كَذَلِكَ هاهنا وَنِصْفُ الْوَلَاءِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ عَلَى مِلْكِهِ وَوَقَفَ النِّصْفَ الْآخَرَ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ أَقَرَّ أَنَّهُ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ إقْرَارَهُ فَلَا يُعْرَفُ لِهَذَا النِّصْفِ مُسْتَحَقٌّ مَعْلُومٌ فَيَكُونَ لِبَيْتِ الْمَالِ فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: هُوَ ابْنُ الشَّرِيكِ وَأَنْكَرَ الشَّرِيكُ فَالْجَوَابُ فِي الْأُمِّ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا الْوَلَدُ فَيَعْتِقُ وَيَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشَّرِيكَ الْمُقِرَّ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ الْوَلَدِ مِنْ جِهَةِ شَرِيكِهِ، وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إذَا شَهِدَ عَلَى الْآخَرِ بِالْعِتْقِ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ يَسْعَى الْعَبْدُ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَا يَسْعَى لِلشَّاهِدِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ وَأَنَّهُ لَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا رَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي جَارِيَةٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّ شَرِيكَهُ دَبَّرَهَا وَأَنْكَرَ الشَّرِيكُ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: الشَّاهِدُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَبَّرَ فَخَدَمَتْهُ يَوْمًا وَالْآخَرَ يَوْمًا، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَلَمْ يُدَبِّرْ فَخَدَمَتْهُ يَوْمًا وَالْآخَرَ يَوْمًا، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَاهَا فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا فَسَعَتْ لَهُ يَوْمًا وَخَدَمَتْ الْآخَرَ يَوْمًا، فَإِذَا أَدَّتْ فَعَتَقَتْ سَعَتْ لِلْآخَرِ، وَكَانَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا كَأُمِّ الْوَلَدِ ثُمَّ رَجَعَ، وَقَالَ: تُوقَفُ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، إلَّا فِي تَبْعِيضِ التَّدْبِيرِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تَسْعَى السَّاعَةَ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الِاسْتِيلَادِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّرِيكَ لَمَّا لَمْ يُصَدِّقْهُ فِي إقْرَارِهِ انْقَلَبَ عَلَيْهِ إقْرَارُهُ وَثَبَتَ التَّدْبِيرُ فِي نَصِيبِهِ، وَإِنَّهُ يَتَعَدَّى إلَى نَصِيبِ الْمُنْكِرِ لِعَدَمِ تَجَزُّؤِ التَّدْبِيرِ عِنْدَهُ، فَقَدْ أَفْسَدَ نَصِيبَ الْمُنْكِرِ وَتَعَذَّرَ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ لِلْمُنْكِرِ لِتَكْذِيبِهِ إيَّاهُ فَتَسْعَى الْجَارِيَةُ لَهُ، كَمَا لَوْ أَنْشَأَ التَّدْبِيرَ فِي نَصِيبِهِ، وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّدْبِيرَ يَتَجَزَّأُ فَلَا يَصِيرُ نَصِيبُهُ بِإِقْرَارِهِ بِالتَّدْبِيرِ عَلَى صَاحِبِهِ مُدَبَّرًا كَمَا لَوْ دَبَّرَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ، أَنَّهُ يَبْقَى نَصِيبُ الْآخَرِ عَلَى حَالِهِ وَلَهُ التَّدْبِيرُ وَالِاسْتِسْعَاءُ وَالتَّرْكُ عَلَى حَالِهِ، إلَّا أَنَّ هاهنا لَوْ اخْتَارَ السِّعَايَةَ فَإِنَّمَا يَسْتَسْعَاهَا يَوْمًا وَيَتْرُكُهَا يَوْمًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ جَمِيعَ مَنَافِعِهَا فَلَا يَمْلِكُ أَنْ يَسْتَسْعِيَ إلَّا عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِ، فَإِذَا أَدَّتْ عَتَقَ نَصِيبُهُ وَيَسْعَى لِلْمُنْكِرِ فِي نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ فَسَدَ نَصِيبُهُ وَتَعَذَّرَ تَضْمِينُ الْمُقِرِّ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَ وَأَبُو يُوسُفَ وَافَقَ أَبَا حَنِيفَةَ إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: إنَّ التَّدْبِيرَ يَتَجَزَّأُ فَهُوَ بِدَعْوَى التَّدْبِيرِ عَلَى شَرِيكِهِ، يَدَّعِي الضَّمَانَ عَلَيْهِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا فَكَانَ مُبَرِّئًا لِلْأَمَةِ عَنْ السِّعَايَةِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ حَقُّ الِاسْتِسْعَاءِ وَلَا حَقُّ الِاسْتِخْدَامِ فَيَتَوَقَّفَ نَصِيبُهُ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّدْبِيرِ عَلَى صَاحِبِهِ، أَوْ شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالِاسْتِيلَادِ، فَلَا سَبِيلَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَلَا عَلَى الْأَمَةِ مُوسِرَيْنِ كَانَا أَوْ مُعْسِرَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي حَقَّ الْحُرِّيَّةِ مِنْ جِهَتِهِ، وَالْإِبْرَاءَ لِلْأَمَةِ مِنْ السِّعَايَةِ وَيَدَّعِي الضَّمَانَ عَلَى شَرِيكِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، فَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَوَافَقَ أَبَا حَنِيفَةَ فِي هَذَا الْفَصْلِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ هاهنا أَبْرَأَ الْأَمَةَ مِنْ السِّعَايَةِ وَادَّعَى الضَّمَانَ عَلَى شَرِيكِهِ.
وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي عَبْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ قَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: هَذَا ابْنِي وَابْنُك أَوْ ابْنُك وَابْنِي فَقَالَ الْآخَرُ: صَدَقْت.
فَهُوَ ابْنُ الْمُقِرِّ خَاصَّةً دُونَ الْمُصَدِّقِ.
وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ فِي صَبِيٍّ لَا يَعْقِلُ فِي يَدِ رَجُلَيْنِ قَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: هُوَ ابْنِي وَابْنُك، وَصَدَّقَهُ صَاحِبُهُ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ هُوَ ابْنِي فَكَمَا قَالَ ذَلِكَ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ لِوُجُودِ الْإِقْرَارِ مِنْهُ بِالنَّسَبِ فِي مِلْكِهِ، فَلَا يَحْتَمِلُ الثُّبُوتَ مِنْ غَيْرِهِ.
بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدٌ: لَوْ قَالَ هَذَا ابْنُك، وَسَكَتَ فَلَمْ يُصَدِّقْهُ صَاحِبُهُ حَتَّى قَالَ هُوَ ابْنِي مَعَك، فَهُوَ مَوْقُوفٌ.
فَإِنْ قَالَ صَاحِبُهُ: هُوَ ابْنِي دُونَك فَهُوَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِالنَّسَبِ ابْتِدَاءً وَسَكَتَ فَقَدْ اسْتَقَرَّ إقْرَارُهُ وَوَقَفَ عَلَى التَّصْدِيقِ فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ هُوَ ابْنِي يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ الْإِقْرَارِ فَلَا يَسْمَعُ فَإِذَا وَجَدَ التَّصْدِيقَ مِنْ الْمُقَرِّ لَهُ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ قَالَ: فَإِنْ قَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: لَيْسَ بِابْنِي وَلَكِنَّهُ ابْنُك أَوْ قَالَ: لَيْسَ بِابْنِي وَلَا ابْنُك أَوْ قَالَ: لَيْسَ بِابْنِي، وَسَكَتَ فَلَيْسَ بِابْنٍ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، فِي قِيَاسِ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ إنْ صَدَّقَهُ فَهُوَ ابْنُ الْمُقِرِّ لَهُ وَإِنْ كَذَّبَهُ فَهُوَ ابْنُ الْمُقِرِّ.
فَهَذَا فَرْعُ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَنْ أَقَرَّ بِعَبْدٍ أَنَّهُ ابْنُ فُلَانٍ وَكَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ وَادَّعَاهُ الْمَوْلَى أَنَّهُ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَتُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِهِمَا تَصِحُّ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فَقَدْ بَطَلَ إقْرَارُهُ كَمَا فِي الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ وَإِذَا بَطَلَ إقْرَارُهُ الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَجَازَ أَنْ يَدَّعِيَهُ لِنَفْسِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِالنَّسَبِ لِغَيْرِهِ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْهُ، فَتَكْذِيبُهُ يَنْفِي ثُبُوتَ النَّسَبِ مِنْهُ فِي حَقِّهِ لَا فِي حَقِّ الشَّرِيكِ بَلْ بَقِيَ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْهُ فِي حَقِّهِ.
فَإِذَا ادَّعَى وَلَدًا هُوَ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ فِي حَقِّهِ فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ، وَلَوْ قَالَ: هُوَ ابْنِي وَابْنُكَ فَهُوَ مِنْ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ هُوَ ابْنِي فَقَدْ صَدَّقَهُ، فَقَدْ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ فَإِقْرَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَابْنُك لَمْ يَصِحَّ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: فَإِنْ كَانَ هَذَا الْغُلَامُ يَعْقِلُ فَالْمَرْجِعُ إلَى تَصْدِيقِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ عَاقِلًا كَانَ فِي يَدِ نَفَسِهِ، فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى النَّسَبِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقِهِ.
قَالَ: وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مِنْ أَمَةٍ وَلَدَتْهُ فِي مِلْكِهِمَا، فَالْجَوَابُ كَالْأَوَّلِ فِي النَّسَبِ إنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَثْبُتُ مِنْ الْمُقِرِّ بَعْدَ اعْتِرَافِهِ لِشَرِيكِهِ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَثْبُتُ قَالَ: وَالْأَمَةُ أُمُّ وَلَدٍ لِمَنْ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ يَتْبَعُ النَّسَبَ، وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ مَا إذَا اشْتَرَى رَجُلَانِ جَارِيَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فِي مِلْكِهِمَا لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا، وَادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّ الْوَلَدَ ابْنُهُ وَادَّعَى الْآخَرُ أَنَّ الْجَارِيَةَ بِنْتُهُ وَخَرَجَتْ الدَّعْوَتَانِ مَعًا.
فَالدَّعْوَةُ دَعْوَةُ مَنْ يَدَّعِي الْوَلَدَ، وَدَعْوَةُ مُدَّعِي الْأُمِّ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ مُدَّعِيَ الْوَلَدِ دَعْوَتُهُ دَعْوَةُ الِاسْتِيلَادِ، وَالِاسْتِيلَادُ يَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ، وَمُدَّعِيَ الْأُمِّ دَعْوَةُ تَحْرِيرٍ وَالتَّحْرِيرُ يَثْبُتُ فِي الْحَالِ وَلَا يَسْتَنِدُ، فَكَانَتْ دَعْوَةُ مُدَّعِي الْوَلَدِ سَابِقَةً، فَثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ وَيَصِيرُ نَصِيبُهُ مِنْ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَيَنْتَقِلُ نَصِيبُ شَرِيكِهِ مِنْهَا إلَيْهِ فَكَانَ دَعْوَى الشَّرِيكِ دَعْوَى فِيمَا لَا يَمْلِكُ فَلَا يُسْمَعْ، وَهَلْ يَضْمَنُ مُدَّعِي الْوَلَدِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْأُمِّ وَنِصْفِ عُقْرِهَا؟ قَالَ مُحَمَّدٌ: يَضْمَنُ، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ أَنَّ هَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهِيَ رِوَايَةُ بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى مُدَّعِي الْوَلَدِ مِنْ قِيمَةِ الْأُمِّ وَلَا مِنْ الْعُقْرِ، وَلَا شَيْءَ لَهُ أَيْضًا عَلَى مُدَّعِي الْأُمِّ، فَإِنْ أَكَذَبَ مُدَّعِي الْأُمِّ نَفَسَهُ فَلَهُ نِصْفُ قِيمَةِ الْأُمِّ، وَنِصْفُ عُقْرِهَا عَلَى مُدَّعِي الْوَلَدِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَقْيَسُ وَوَجْهُهُ أَنَّ مُدَّعِي الْأُمِّ أَقَرَّ أَنَّهَا حُرَّةُ الْأَصْلِ.
فَكَانَ مُنْكِرًا ضَمَانَ الْقِيمَةِ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ التَّضْمِينِ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دَعْوَاهُ وَأَكْذَبَ نَفَسَهُ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الضَّمَانِ الَّذِي اعْتَرَفَ بِهِ لَهُ شَرِيكُهُ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْ الْمُدَّعِي، فَقَدْ صَارَ نَصِيبُهُ مِنْ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ فَكَذَا نَصِيبُ شَرِيكِهِ لِعَدَمِ تَجَزُّؤِ الْجَارِيَةِ فِي حَقِّ الِاسْتِيلَادِ فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ، فَصَارَ مُتْلِفًا نَصِيبَ شَرِيكِهِ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ تَمَلُّكُ مَالِ الْغَيْرِ إلَّا بِعِوَضٍ فَيَضْمَنَ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَةِ الْأُمِّ، وَيَضْمَنَ لَهُ نِصْفَ عُقْرِ الْجَارِيَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَاقَاهَا، وَنِصْفُهَا مَمْلُوكٌ لِلشَّرِيكِ، فَمَا صَادَفَ مِلْكَ غَيْرِهِ يَجِبُ بِهِ الْعُقْرُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ أَنَّ مُدَّعِيَ الْأُمِّ أَقَرَّ أَنَّهَا حُرَّةُ الْأَصْلِ.
فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمَّا قَضَى بِكَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ لِلْمُدَّعِي فَقَدْ صَارَ مُكَذِّبًا شَرْعًا، فَبَطَلَ كَمَا لَوْ ادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ اشْتَرَى الدَّارَ بِأَلْفٍ وَادَّعَى الْبَائِعُ الْبَيْعَ بِأَلْفَيْنِ وَأَقَامَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ، وَقَضَى الْقَاضِي بِأَلْفَيْنِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهَا بِالْأَلْفَيْنِ مِنْ الْمُشْتَرِي وَإِنْ سَبَقَ مِنْ الْمُشْتَرِي الْإِقْرَارُ بِالشِّرَاءِ بِأَلْفٍ لِمَا أَنَّهُ كَذَّبَهُ شَرْعًا كَذَا هَذَا، وَالثَّانِي أَنَّ إقْرَارَهُ بِحُرِّيَّتِهَا وُجِدَ بَعْدَ مَا حَكَمَ بِزَوَالِهَا عَنْ مِلْكِهِ؛ لِأَنَّهَا جُعِلَتْ زَائِلَةً عَنْهُ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ فَلَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ، فَلَمْ يَصِرْ إقْرَارُهُ إبْرَاءَ إيَّاهُ عَنْ الضَّمَانِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الشَّفِيعِ.
وَمِنْ مَسَائِلِ دَعْوَى الْوَلَدِ إذَا كَاتَبَ الرَّجُلُ أَمَتَهُ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لَيْسَ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ فَادَّعَاهُ الْمَوْلَى ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ صَدَّقَتْهُ أَمْ كَذَّبَتْهُ، وَسَوَاءٌ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ لِأَكْثَرَ أَوْ لِأَقَلَّ فَإِنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ يَثْبُتُ عَلَى كُلِّ حَالٍ إذَا ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى فَكَانَ وَلَدُهَا مَمْلُوكًا لَهُ، وَدَعْوَةُ الْمَوْلَى وَلَدَ أَمَتِهِ لَا تَقِفُ صِحَّتُهَا عَلَى التَّصْدِيقِ وَعِتْقِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ نَسَبَهُ ثَبَتَ مِنْ الْمَوْلَى وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ؛ لِأَنَّ غَرَضَ الْمُكَاتَبَةِ مِنْ الْكِتَابَةِ عِتْقُهَا وَعِتْقُ أَوْلَادِهَا وَقَدْ حَصَلَ لَهَا هَذَا الْغَرَضُ فَلَا يَضْمَنُ لَهَا شَيْئًا، ثُمَّ إنْ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَعَلَيْهِ الْعُقْرُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَطْءَ حَصَلَ فِي حَالِ الْكِتَابَةِ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ كَاتَبَهَا فَلَا عُقْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ وَطِئَهَا قَبْلَ الْكِتَابَةِ، وَالْمُكَاتَبَةُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ مَضَتْ عَلَى كِتَابَتِهَا، وَإِنْ شَاءَتْ عَجَزَتْ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَوَجَّهَتْ إلَيْهَا مِنْ جِهَتَيْنِ وَلَهَا فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غَرَضٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ بِالْكِتَابَةِ تَتَعَجَّلُ لَهَا الْحُرِّيَّةُ وَبِالِاسْتِيلَادِ تَسْقُطُ عَنْهَا السِّعَايَةُ، فَكَانَ التَّخْيِيرُ مُفِيدًا فَكَانَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ أَيَّهمَا شَاءَتْ.
وَإِنْ ادَّعَى الْمَوْلَى وَلَدَ جَارِيَةِ الْمُكَاتِبِ لَهُ وَقَدْ عَلِقَتْ بِهِ فِي مِلْكِ الْمُكَاتِبِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إلَى تَصْدِيقِ الْمُكَاتِبِ، فَإِنْ كَذَّبَ الْمَوْلَى لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ الْوَلَدِ وَلَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَكَانَتْ الْجَارِيَةُ وَوَلَدُهَا مَمْلُوكَيْنِ، وَإِنْ صَدَّقَهُ كَانَ الْوَلَدُ ابْنَ الْمَوْلَى وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ وُلِدَ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا، وَكَذَا ذَكَرَ فِي الدَّعَاوَى إلَّا أَنَّهُ قَالَ: أَسْتَحْسِنُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْحَبَلُ فِي مِلْكِ الْمُكَاتِبِ، وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَعْتِقَ الْوَلَدُ وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُكَاتِبُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَوْلَى يُصَدَّقُ بِغَيْرِ تَصْدِيقِ الْمَكَاتِبِ.
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ بِغَيْرِ تَصْدِيقٍ، فَكَذَا مَعَ التَّصْدِيقِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يَمْلِكُ التَّحْرِيرَ بِنَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ التَّصْدِيقَ بِالْحُرِّيَّةِ أَيْضًا، وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ حَقَّ الرَّجُلِ فِي مَالِ مُكَاتَبِهِ أَقْوَى مِنْ حَقِّهِ فِي مَالِ وَلَدِهِ، فَلَمَّا ثَبَتَ النَّسَبُ فِي جَارِيَةِ الِابْنِ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقٍ فَهاَهُنَا أَوْلَى، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ حَقَّ الْمُكَاتَبِ فِي كَسْبِهِ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمَوْلَى بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ النَّزْعَ مِنْ يَدِهِ فَكَانَ الْمَوْلَى فِي حَقِّ مِلْكِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ، فَتَقِفُ صِحَّةُ دَعْوَتِهِ عَلَى تَصْدِيقِ الْمُكَاتَبِ فَإِنْ صَدَّقَهُ كَانَ الْوَلَدُ ابْنَ الْمَوْلَى وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ وُلِدَ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ وَلَدَ الْمَغْرُورِ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْأُمِّ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الذَّاتِ فِي الْمُكَاتَبِ لِلْمَوْلَى وَمِلْكُ التَّصَرُّفَاتِ لِلْمُكَاتَبِ كَالْمَغْرُورِ، أَنَّهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْأُمِّ ظَاهِرًا وَلِلْمُسْتَحِقِّ حَقِيقَةً، وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ: إذَا اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ أَمَةً حَامِلًا فَادَّعَى مَوْلَاهَا وَلَدَهَا، أَوْ اشْتَرَى عَبْدًا صَغِيرًا فَادَّعَاهُ لَمْ يَجُزْ دَعْوَتُهُ إلَّا بِالتَّصْدِيقِ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، إلَّا أَنَّ هُنَاكَ إذَا صَدَّقَهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَيَعْتِقُ وَهَاهُنَا إنْ صَدَّقَهُ الْمَكَاتِبُ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَلَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الدَّعْوَةَ دَعْوَةُ اسْتِيلَادٍ لِعَدَمِ الْعُلُوقِ فِي الْمِلْكِ فَكَانَتْ دَعْوَةَ تَحْرِيرٍ، وَالْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ تَحْرِيرَهُ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ لَا تَصِحُّ؟ إلَّا أَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ النَّسَبِ ثُبُوتُ الْعِتْقِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ ادَّعَى وَلَدَ أَمَةٍ أَجْنَبِيٍّ فَصَدَّقَهُ مَوْلَاهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَلَا يَعْتِقُ فِي الْحَالِ؟ كَذَا هَاهُنَا.